روى الشيخ الصدوق:
دخل معاذ بن جبل على رسول الله (ص) باكياً ، فسلّم فردّ عليه السلام ثم قال : ما يبكيك يا معاذ ؟!.. فقال : يا رسول الله !.. إنّ بالباب شاباً طريّ الجسد ، نقيّ اللون ، حسن الصورة ، يبكي على شبابه بكاء الثكلى على ولدها ، يريد الدخول عليك ، فقال النبي (ص) : ادخِل الشاب يا معاذ فأدخله عليه ، فسلّم فردّ عليه السلام ، ثم قال : ما يبكيك يا شاب ؟!.. قال : كيف لا أبكي وقد ركبت ذنوبا ، إن أخذني الله عزّ وجلّ ببعضها أدخلني نار جهنم ؟.. ولا أراني إلا سيأخذني بها ولا يغفر لي أبدا .
فقال رسول الله (ص) : هل أشركت بالله شيئا ؟.. قال : أعوذ بالله أن أشرك بربي شيئا ، قال : أقتلت النفس التي حرّم الله ؟.. قال : لا .
فقال النبي (ص) : يغفر الله لك ذنوبك ، وإن كانت مثل الجبال الرواسي ، فقال الشاب : فإنها أعظم من الجبال الرواسي .
فقال النبي (ص) : يغفر الله لك ذنوبك ، وإن كانت مثل الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق ، قال : فإنها أعظم من الأرضين السبع وبحارها ورمالها وأشجارها وما فيها من الخلق !..
فقال النبي (ص) : يغفر الله لك ذنوبك وإن كانت مثل السماوات ونجومها ، ومثل العرش والكرسيّ ، قال : فإنّها أعظم من ذلك ، فنظر النبي (ص) إليه كهيئة الغضبان ثمّ قال : ويحك يا شابّ !.. ذنوبك أعظم أم ربّك ؟..
فخرّ الشاب لوجهه وهو يقول : سبحان ربيّ !.. ما شيءٌ أعظم من ربّي ، ربّي أعظم يا نبي الله من كل عظيم !.. فقال النبي (ص) : فهل يغفر الذنب العظيم إلاّ الربّ العظيم ؟.. قال الشاب : لا والله يا رسول الله ، ثمّ سكت الشاب فقال له النبي (ص) : ويحك يا شاب !.. ألا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك ؟..
قال: بلى أخبرك : إنّي كنت أنبش القبور سبع سنين ، أُخرج الأموات ، وأنزع الأكفان ، فماتت جاريةٌ من بعض بنات الأنصار ، فلمّا حُملت إلى قبرها ودُفنت وانصرف عنها أهلها ، وجنّ عليهم الليل ، أتيت قبرها فنبشتها ، ثمّ استخرجتها ونزعت ما كان عليها من أكفانها ، وتركتها متجرّدةً على شفير قبرها .
ومضيت منصرفاً فأتاني الشيطان فأقبل يزيّنها لي ، ويقول : أما ترى بطنها وبياضها ؟.. ؟.. فلم يزل يقول لي هذا حتى رجعت إليها ، ولم أملك نفسي حتى جامعتها وتركتها مكانها ، فإذا أنا بصوت من ورائي يقول : يا شاب !.. ويلٌ لك من ديّان يوم الدين ، يوم يقفني وإيّاك كما تركتني عريانةً في عساكر الموتى ، ونزعتني من حفرتي وسلبتني أكفاني ، وتركتني أقوم جُنُبةً إلى حسابي ، فويلٌ لشبابك من النار!.. فما أظنّ أني أشمّ ريح الجنّة أبداً ، فما ترى لي يا رسول الله ؟..
فقال النبي (ص) : تنحَّ عني يا فاسق !.. إنّي أخاف أن احترق بنارك ، فما أقربك من النار !.. ثمّ لم يزل (ع) يقول ويشير إليه حتى أُمعن من بين يديه ، فذهب فأتى المدينة فتزوّد منها ثمّ أتى بعض جبالها فتعبّد فيها ، ولبس مسحاً وغلّ يديه جميعاً إلى عنقه ، ونادى : يا ربّ !.. هذا عبدك بهلول بين يديك مغلول ، يا رب أنت الذي تعرفني ، وزلّ مني ما تعلم ، سيدي !.. يا ربّ !.. أصبحتُ من النادمين ، وأتيت نبيّك تائباً فطردني وزادني خوفاً ، فأسألك باسمك وجلالك وعظمة سلطانك أن لا تخيّب رجائي ، سيّدي !.. ولا تبطل دعائي ، ولا تقنّطني من رحمتك .
فلم يزل يقول ذلك أربعين يوماً وليلة ، تبكي له السباع والوحوش ، فلمّا تمّت له أربعون يوماً وليلة رفع يديه إلى السماء ، وقال: اللهم ما فعلتَ في حاجتي ؟.. إن كنت استجبت دعائي وغفرت خطيئتي ، فأوحِ إلى نبيّك ، وإن لم تستجب لي دعائي ، ولم تغفر لي خطيئتي ، وأردت عقوبتي ، فعجّل بنار تحرقني أو عقوبة في الدنيا تهلكني ، وخلّصني من فضيحة يوم القيامة.
فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيّه (ص) : { والذّين إذا فعلوا فاحشة } يعني الزنا { أو ظلموا أنفسهم } يعني بارتكاب ذنب أعظم من الزنا ، ونبش القبور ، وأخذ الأكفان ، { ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } يقول : خافوا الله فعجّلوا التوبة ، { ومن يغفر الذنوب إلاّ الله } ، يقول عزّ وجلّ : أتاك عبدي يا محمّد تائباً فطردته ، فأين يذهب ؟.. وإلى مَن يقصد ؟.. ومَن يسأل أن يغفر له ذنباً غيري ؟.. ثمّ قال عزّ وجلّ : { ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون } يقول : لم يقيموا على الزنا ونبش القبور وأخذ الأكفان {أولئك جزاؤهم مغفرة من ربّهم وجنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين } .
فلمّا نزلت هذه الآية على رسول الله (ص) خرج وهو يتلوها ويتبسّم ، فقال لأصحابه : مَن يدلّني على ذلك الشابّ التائب ؟.. فقال معاذ : يا رسول الله ، بلغنا أنّه في موضع كذا وكذا ، فمضى رسول الله (ص) بأصحابه حتى انتهوا إلى ذلك الجبل ، فصعدوا إليه يطلبون الشاب ، فإذا هم بالشاب قائم بين صخرتين ، مغلولةٌ يداه إلى عنقه ، قد اسوّد وجهه ، وتساقطت أشفار عينيه من البكاء ، وهو يقول : سيّدي !.. قد أحسنت خلقي وأحسنت صورتي ، فليت شعري ماذا تريد بي ؟.. أفي النار تحرقني ؟.. أو في جوارك تسكنني ؟.. اللّهم إنّك قد أكثرت الإحسان إليّ وأنعمت عليّ ، فليت شعري ماذا يكون آخر أمري ؟.. إلى الجنّة تزفّني ؟.. أم إلى النار تسوقني ؟.. الّلهم إنّ خطيئتي أعظم من السماوات والأرض ، ومن كرسيّك الواسع وعرشك العظيم ، فليت شعري تغفر خطيئتي أم تفضحني بها يوم القيامة ؟..
فلم يزل يقول نحو هذا وهو يبكي ، ويحثو التراب على رأسه وقد أحاطت به السباع !.. وصفّت فوقه الطير !.. وهم يبكون لبكائه !.. فدنا رسول الله (ص) فأطلق يديه من عنقه ، ونفض التراب عن رأسه ، وقال : يا بهلول !.. أبشر فإنّك عتيق الله من النار ، ثم قال (ع) لأصحابه : هكذا تداركوا الذنوب كما تداركها بهلول ، ثم تلا عليه ما أنزل الله عزّ وجلّ فيه وبشّره بالجنّة .